فصل: التحليل اللفظي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لدعائهم، عليم بأحوالهم.
والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى البلاء الحسن، وهو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي الغرض {ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} أي: إن الغرض منه سبحانه بما وقع مما حكته الآيات السابقة، إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين.
وقيل المشار إليه القتل والرمي.
وقد قرئ بتشديد الهاء وتخفيفها مع التنوين، وقرأ الحسن بتخفيف الهاء مع الإضافة، والكيد: المكر.
وقد تقدّم بيانه.
وقد أخرج البخاري في تاريخه، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن نافع، أنه سأل ابن عمر قال: إنا قوم لا نثبت عند قتال عدوّنا، ولا ندري من الفئة أمامنا أو عسكرنا؟ فقال لي: الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن الله يقول: {إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} قال: إنما نزلت هذه الآية في أهل بدر، لا قبلها ولا بعدها.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري، في قوله: {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الآية قال: إنها كانت لأهل بدر خاصة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عمر بن الخطاب قال: لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر، وأنا فئة لكل مسلم.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، في الآية قال: نزلت في أهل بدر خاصة ما كان لهم أن ينهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركوه.
وقد روي اختصاص هذه الآية بأهل بدر عن جماعة من التابعين ومن بعدهم، وقد قدّمنا الإشارة إلى ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في قوله: {إِلاَّ مُتَحَرّفًا لّقِتَالٍ} يعني: مستطردًا يريد الكرّة على المشركين {أَوْ مُتَحَيّزًا إلى فِئَةٍ} يعني: أو ينجاز إلى أصحابه من غير هزيمة {فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ الله} يقول: استوجبوا سخطًا من الله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} فهذا يوم بدر خاصة، كان شديدًا على المسلمين يومئذ، ليقطع دابر الكافرين وهو أول قتال قاتل المشركين من أهل مكة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الضحاك قال: المتحرّف: المتقدّم من أصحابه أن يرى عورة من العدوّ فيصيبها.
والمتحيز: الفارّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره وأصحابه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن عطاء بن أبي رباح، في قوله: {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} قال: هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ} الآية [الأنفال: 66].
وأخرج سعيد بن منصور، وابن سعد، وابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري في الأدب المفرد، واللفظ له، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عمر قال: كنا في غزاة فحاص الناس حيصة، قلنا: كيف نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟ فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فخرج فقال: «من القوم؟» فقالنا: نحن الفرّارون، فقال: «لا، بل أنتم العكارون» فقبلنا يده فقال: «أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين، ثم قرأ {إِلاَّ مُتَحَرّفًا لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزًا إلى فِئَةٍ}».
وقد روي في تحريم الفرار من الزحف، وأنه من الكبائر أحاديث، وورد عن جماعة من الصحابة أنه من الكبائر، كما أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس.
وأخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن عمر.
وأخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، عن علي بن أبي طالب.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} قال لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: هذا قتلت وهذا قتلت {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} قال لمحمد صلى الله عليه وسلم حين حصب الكفار.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة، في قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} قال: رماهم يوم بدر بالحصباء.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر سمعنا صوتًا من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصباء وقال: «شاهت الوجوه»، فانهزمنا، فذلك قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} الآية.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن جابر، قال: سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر، كأنهنّ وقعن في طست، فلما اصطفّ الناس أخذهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهنّ في وجوه المشركين، فانهزموا.
فذلك قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى}.
وأخرج الطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس، في قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ: «ناولني قبضة من حصباء»، فناوله فرمى بها في وجوه القوم، فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء، فنزلت هذه الآية: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيب، قال: لما كان يوم أحد أخذ أبيّ بن خلف يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترض رجال من المسلمين لأبيّ بن خلف ليقتلوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استأخروا»، فاستأخروا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربته في يده، فرمى بها أبيّ بن خلف، وكسر ضلعًا من أضلاعه، فرجع أبيّ بن خلف إلى أصحابه ثقيلًا، فاحتملوه حين ولوا قافلين، فطفقوا يقولون لا بأس، فقال أبيّ حين قالوا له ذلك: والله لو كانت بالناس لقتلتهم، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله، فانطلق به أصحابه ينعشونه حتى مات ببعض الطريق، فدفنوه.
قال ابن المسيب: وفي ذلك أنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيب، والزهري نحوه، وإسناده صحيح إليهما، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك.
قال ابن كثير: وهذا القول عن هذين الإمامين غريب جدًّا، ولعلهما أرادا أن الآية تتناولهما بعمومها، وهكذا قال فيما قاله عبد الرحمن بن جبير كما سيأتي.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عبد الرحمن بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج يؤم ابن أبي الحقيق دعا بقوس فرمى بها الحصن، فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه، فأنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى}.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عروة بن الزبير، في قوله: {ولكن الله رمى} أي: لم يكن ذلك برميتك لولا الذي جعل الله من نصرك وما ألقى في صدور عدوّك حتى هزمهم {وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا} أي ليعرف المؤمنين من نعمته عليهم في إظهارهم على عدوّهم مع كثرة عدوّهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه، ويشكروا بذلك نعمته. اهـ.

.قال الصابوني:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)}
الفرار من الزحف:

.التحليل اللفظي:

{زَحْفًا}: زحف الرجل إذا مشى على بطنه كالحية، أو دبّ على مقعده كالصبي، وشبّه به هنا مشي الجيش الكثير للقتال بزحف الصبيان، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف زحفًا.
{الأدبار}: جمع دُبُر وهو الخَلْف ويقابله (القُبُل) وهو الأمام، ويطلق القُبُل والدّبُر على سوأتي الإنسان، وأمّا إطلاقه على الأمام والخلف فمشهور في اللغة قال تعالى: {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} [يوسف: 25].
{مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ}: يقال: تحرّف وانحرف إذا مال وعدل من طَرَف إلى طرف، مأخوذ من الحَرْف وهو الطرف أي الجانب، والتحرف للقتال الفرّ للكرّ أي يتظاهر بالفرار ليغرّ عدوه حتّى يُخيّل له أنه انهزم، ثم يكر عليه فيقتله، وهذا من باب مكايد الحرب (والحرب خدعة).
{مُتَحَيِّزًا}: أي منظمًا، والفئة: الجماعة قال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} [الأنفال: 45] والمراد أن ينهزم لينضمّ إلى جماعة أُخرى يعينهم أو يستعين بهم.
{بَاءَ بِغَضَبٍ}: أي رجع بغضب وسخط من الله.
{وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ}: أي مسكنه وملجأه جهنم وبئس هذا الملجأ والمصير.
{مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين}: أي مضعف بأس الكافرين بخذلانهم ونصر المؤمنين عليهم.
قال ابن كثير: هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر فإنه تبارك وتعالى أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل ومصغرّ أمرهم، وأنهم في تبار ودمار وقد وُجد المخبرُ وفق الخبر فصار معجزًا للنبي صلى الله عليه وسلم فللَّه الحمد والمنة.

.المعنى الإجمالي:

هذه الآيات الكريمة نزلت لتثبيت قلوب المؤمنين في أول غزوة وقعت بينهم وبين المشركين ألا وهي غزوة بدر وقد كانت هذه المعركة هي الفارقة بين عهدين عهد الكفر، وعهد الإيمان ولذلك سمي يومها بيوم الفرقان قال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41] لأنها فرقت بين الظلام والنور وبين الكفر والإيمان وفي هذه الآيات يأمر الله عباده المؤمنين أن يصمدوا أمام أعدائهم، وألا ينهزموا مهما كان جيش الكفر عظيمًا وكبيرًا، فإن الغلبة ليست بالكثرة، والمؤمنون أولى بالثبات والشجاعة من الكافرين، لأنهم يطلبون إحدى الحسنيين: إما العزة في الدنيا والنصر على الأعداء، وإما الشهادة في سبيل الله التي لا يعادلها شيء من الأشياء وقد حذرهم من الفرار والهزيمة لأن فيه كسرًا لجيش المسلمين والقاءً للرغب في قلوب المجاهدين وبين تعالى أن الفرار يجوز في حالتين اثنتين.
الأولى: إذا كان بقصد خداع العدو والتغرير به، لأن الحرب خدعة، والعاقل من عرف كيف يبطش بعدوه ويستدرجه.
والثانية: إذا بقي هذا المسلم وحيدًا فريدًا فانضم إلى جماعة أخرى ليتقوى بها أو رأى أنها بحاجة إليه ليشد أزرهم ويقوي عزمهم.
وما عدا ذلك فالفرار من الزحف جريمة نهى الله تعالى عنه وتوعد عليه أشد التوعيد وهو أن يرجع بغضب من الله وأن مقره في جهنم وبئس ذلك المقر والمصير.
ثم بين تعالى أن المؤمنين لم ينتصروا في بدر ولا في غيرها من الغزوات بقوة سلاحهم ولا بوفرة عددهم وإنما انتصروا بتأييد الله لهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، فليعتمدوا إذًا على الله وليتوكلوا عليه فإنه نعم المولى ونعم النصير.

.تنبيه وفائدة:

ذكر المفسرون عند قوله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} «أن النبي صلى الله عليه وسلم صفّ الصفوف يوم بدر ثم أخذ قبضة من تراب وحصباء ثم استقبل بها قريشًا فقال: شاهت الوجوه ثم رمى بها المشركين فلم يبق أحد منهم إلا وقد أصابه ذلك اليوم منها فدخلت في عيونهم ثم أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يشدوا عليهم فكانت الهزيمة وقتل من قتل من صناديد قريش وأُسر من أُسر من أشرافهم».

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: الفرار من الزحف من الكبائر:

تدل ظواهر النصوص الشرعية على حرمة الفرار من الزحف إلا في حالتين اثنتين وهما: حالة الفر من أجل الكرّ خدعة للعدو- وحالة الالتحاق إلى جماعة المسلمين والانضمام إلى صفوفهم ليتقوى بهم وقد بينت السنة النبوية أن الفرار من الزحف من الكبائر فقد قال صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبِقات» قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حمر الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».

.الحكم الثاني: كم عدد العدو الذي يحرم الفرار منه؟

هذه الآية حرمت الفرار من القتال، وأما عدد العدو الذي يحرم الفرار منه فقد بينته الآية في آخر سورة الأنفال وهي قوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66] فقد أوجبت هذه الآية على المسلمين أن يثبتوا أمام أعدائهم إذا كان العدو ضعفهم وقد كانوا من قبل مكلفين بملاقاة العدو والصمود حتى ولو كانوا عشرة أضعافهم فنسخ الله ذلك وخفف عن عباده رحمة بهم وتيسيرًا عليهم، فإذا كان جيش الكفار يزيد أضعافًا مضاعفة على جيش المسلمين فإنه لا يجب عليهم ملاقاته إلا إذا كان هناك خطر جسيم كهجوم المشركين على ديار المسلمين فإنه يجب حينئذٍ الدفاع عليهم، ويفترض القتال على الرجل والمرأة والصغير والكبير.
وأما المغامرة في الحرب فقد قال بعض العلماء: لا يقتحم الواحد على العشرة ولا القليل على الكثير لأن في ذلك إلقاء إلى التهلكة.
والصحيح كما قال (ابن العربي): إنه تجوز المغامرة لكسر شوكة المشركين وإضعاف نفوسهم فإنهم إذا رأوا هذه الشجاعة النادرة من شخص واحد دبّ الرعب في قلوبهم وأيقنوا بعدم قدرتهم على مقاومة المسلمين وفي ذلك إعزاز لدين الله وقهر للمشركين والله أعلم.